التكامل بين الفكر السوري القومي والفكر القومي العربي
التكامل بين الفكر السوري القومي والفكر القومي العربي
*الأستاذ طارق الأحمد
إدارة الحوار د. ريم منصور الأطرش
ملخّص الندوة التي أقامتها الأمانة العامّة للمؤتمر القومي العربي بالتعاون مع المركز الثقافي في دمشق / أبو رمانة.
تحدّث الأستاذ طارق الأحمد عن معاناتنا الحاليّة من وجود تصميم جائر لنمطَيْن من العقل: العقل الجامع والعقل الخلافي، وهذا لن يؤدّي إلى تفاعل سليم، بل إلى تقسيم عمودي حاد.
ثم استعرض تاريخ نشوء الفكر القومي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فذكّر بالجمعيات الفكرية التي بدأت بطرح سؤال (من نحن؟).
وانتقل بعد ذلك إلى الحديث عن سبب نشأة الأفكار القومية. فالحال في أوروبا مثلاً تتلخّص في أنّ الفاتح يسيطر على الأراضي التي تصل إليها خيوله: وحيث يكون الجيش، يكون الملك. لكنْ، بعد مؤتمر ويستفَليا في العام 1648، ظهرت سيادة الدول.
ثم أخذ يستعرض فكر الشهيد أنطون سعادة الذي أكّد على مصطلح “المُتَّحَد”: أي المنطقة الشاسعة التي لها حدود طبيعية كالجبال والأنهار. فالأمة تتشكّل ضمن البيئة الطبيعية، وتربطها علاقات ومصالح سياسية واقتصادية. وأكّد الأستاذ الأحمد على التفاعل في هذه المنطقة، حيث يحدث فيها حركة عمودية مع الطبيعة وحركة أفقية بين الناس، كالتزاوج والاقتتال. هذا التفاعل يخلق سمات مشتركة بين البشر.
ذكر المحاضِر أنّ الحضارات تنشأ على ضفاف الأنهار ثم تتطوّر. وأعطى مثالاً على وجود بذار القمح في مملكة إيبلا منذ الألف الثانية قبل الميلاد، لا القمح في حالته البرّية، بل هو تطوير للبذار فيها.
في رأي سعادة، سوريا الطبيعية هي أمة من العالم العربي، وهي سيف وترس العروبة.
وهنا، نبّه الأستاذ الأحمد إلى الفارق الواضح بين القومية والاثنية، مُعطياً مثالاً عن الكرد والأرمن الذين تركوا مناطقهم الأصلية وعاشوا في فرنسا مثلاً، فهم في هذه الحالة اثنية لا قومية.
بالنسبة إلى الشهيد أنطون سعادة، الفرد هو إمكانية إنسانية: فإنْ شكّل، مثلاً، مئة شخص مجتمعاً، أضحت قوّتهم في هذا المجتمع أقوى من قوّتهم أفراداً. فالإنسان إنسان في المجتمع، ومصلحة المجتمع تتقدّم على مصلحة الفرد؛ وحقوق الإنسان عند سعادة هي حقوق إنسان المجتمع.
وشرح الأستاذ الأحمد أنّ الهجرات الساميّة من الجزيرة العربية، والسلالات هي فكرة دخيلة أتى بها المستشرق اليهودي النمساوي لودفيك شلوتزر، في القرن الثامن عشر، وتمّ إقحامها على الفكر، وتمّ تبنّيها، للأسف، من المناهج الدراسية التي تعلّمتْها أجيال متتالية، واعتُبِرَتْ أساساً لتكوين الأمة؛ وأكّد على أنها فكرة سخيفة، أتى بها هذا المستشرق من الإصحاح العاشر في سفر التكوين، لكنّ سعادة أوضح تعريف الأمم في كتابه نشوء الأمم.
اختلف سعادة مع هيغيل وماركس في وجود مفهوم المدرحية عنده (المادة والروح)، وتأثّر بالفيلسوف دوركهايم في ما يخصّ الإنسان والمجتمع. حين درس سعادة تلك الفلسفات، تكامل معها.
ثم شرح الأستاذ الأحمد طرْح أنطون سعادة لمفهوم تشكيل هوية الأمة بأنّ ) Thèse أي قضية) تطرح ضدّها (Antithèse) في سبيل تأليف تركيب جديد أو مجموعة أخرى هي ( Synthèse)، يعني: إنْ كان قد عاش في سوريا مثلاً، فينيقيون وآراميون وأنباط، والآن، كرد وأرمن، فهم اليوم جميعاً سوريون، وهذه النتيجة يمكن لها أن تكون مختلفة وخلّاقة وفاعلة، أي خلق جديد من العنصرين المتفاعلين، وأتى بمثالين على هذا الأمر: علمي وأدبي؛ المثال العلمي، هو:
مادة زيت الزيتون، وهي مادة تؤكَل، إنْ أضيفت إليها مادة حارقة هي ماءات الصوديوم، يتحوّل الناتج إلى صابون، وهي مادة مختلفة تماماً بمواصفاتها عن المادتين المتفاعلتين؛ أما المثال الأدبي فهو:
بيت شعر للطيب المتنبي في رثاء أخت سيف الدولة الحمداني يقول فيه:
وإنْ تكنْ تغلِبُ الغَلباءُ عنصرَها / فإنّ في الخمرِ معنىً ليس في العنبِ
وإنّ المادة التي تنتج عبر العناية بعصير العنب هي الخمر، وجودته تتأثّر بنوعية العناية به. وهذا ما قال فيه أنطون سعادة أيضاً: “إنّ النبت الصالح ينمو بالعناية، أما الشوك فينمو بالإهمال”. وبالتالي حين لا يتمّ تصنيع الخمر جيداً، فإنه يتحوّل إلى خلّ، أو نوعية سيئة من المادة ذاتها.
أكّد الأستاذ طارق الأحمد على أنه حين يتمّ مدّ اليد للقوميين العرب ولغيرهم، يكون ثمة تقارب، حينها نستطيع جميعاً الخروج من أزمتنا عن طريق التكامل، وهو مفهوم رياضي واضح، لكنه لا يعني التماثل. إنه حرص دائم على البحث عن المشتركات بين المدارس القومية في سبيل إيجاد فضاء للتعاون، كي نقف جميعاً، وبوصلتنا هي تحرير فلسطين، سدّاً منيعاً في وجه الاستعمار والصهيونية.
مداخلة د. ريم منصور الأطرش بناءً على طلب من الأستاذ طارق الأحمد:
قامت د. الأطرش بقراءة نص الأستاذ معن بشور الذي خطّه في 21/12/2020، عروبتي كما أفهمها (2)، وهنا بعض المقتطفات منه:
– “العروبة كما أفهمها هوية جامعة تنطوي على بُعد إنساني مستمدّ من أرضٍ كانت مهد الرسالات السماوية
الكبرى، لذلك فهي نقيض العنصرية والفاشية والتعصّب العرقي والقومي.
والعروبة كما أفهمها هي هوية تنطوي على دعوة للوحدة بين أبناء الأمة، أيّاً كان مستواها، فيدرالية أم كونفدرالية أم تنسيق أم تعاون أم تشبيك، كما أنها دعوة للانفتاح على العالم كلّه، لا سيما الشعوب المناهضة للاستعمار والعنصرية والاستغلال.
والعروبة كما أفهمها تدعو لقيام مجتمع المساواة بين أبناء الوطن العربي الكبير، ولا تفرّق بينهم على أساس الدين أو اللون أو الجنس أو العرق، بل دعوة لقيام دولة المواطنة التي يتمتّع فيها كل مواطن بالحقوق ذاتها ويقوم بالواجبات نفسها. (…).
والعروبة كما أفهمها هي هوية تنطوي على الدعوة إلى مقاومة كل ظلم (…) وخاصةً كل احتلال (…)، بل هي هوية تنطوي على مبدأ ثابت أنّ احتلال أيّ جزء من الأرض العربية هو احتلال للأمة كلّها، فكيف حين يكون هذا الجزء هو فلسطين، في قلب الأمة وصلة الوصل بين مشرقها ومغربها وأرض مقدّساتها… لذلك، لا تكون عروبتي كاملة إذا لم تكن فلسطين في قلبها، والمقاومة، بكل أشكالها، هي خيارنا لتحريرها، كما لتحرير كل أرض عربية محتلّة. (…).
عروبتي كما أفهمها ليس فيها أقليّات (…).
عروبتي كما أفهمها هي دعوة مستمرّة للنضال والكفاح من أجل تحرير الإنسان العربي وتوحيد الوطن العربي.”
ثم ذكرت د. الأطرش مثالَين واقعيين على العلاقة التكاملية، بين القضيتين السورية والعربية، في نظر بعض رجال سوريا:
– في أوراق سلطان الأطرش، القائد العام للثورة السورية الكبرى 1925، كان يؤكّد فيها على العلاقة الوثيقة بين القضية السورية والقضية العربية. كما أنه، في بيانه “إلى السلاح”، في آب 1925، كتب أنّ الهدف الأول للثورة هو توحيد سوريا ساحلاً وداخلاً، والهدف الثاني هو الاستقلال. إذن، وحدة سوريا الطبيعية كانت هاجسه. كان ذلك في عشرينيات القرن العشرين، قبل تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي.
– منصور سلطان الأطرش، هو من مؤسّسي حزب البعث العربي، وهو من القوميين العرب الأشدّاء، وقد زرع في عائلته فكرة التكامل بين العروبة والسورية القومية.
– قبل رحيله بعام واحد، أي في العام 2005، كان منصور الأطرش يستشعر الخطر القادم على سوريا. وهذا ما كتبه ونشرتُه له في كتابه (الإصلاح في سوريا ومقالات أخرى) في بيروت، دار الفرات، 2014. فقرّر زيارة الأستاذ عصام المحايري، مقترِحاً عليه تشكيل جبهة وطنية تضمّ القوميين العرب والسوريين القوميين لوضع خطة من أجل مواجهة هذا الخطر القادم. كان جواب الأستاذ المحايري (سوف أردّ لك خبراً يا أبا ثائر).
رحل أبو ثائر في منتصف تشرين الثاني من العام 2006، ولم يأتِ ذاك الخبر!!
بعضٌ من مداخلات الحضور
– كانت ثمة عدّة مداخلات أضفت على الندوة، التي دامت ساعتين ونصف، أهمية خاصة وشكّلت إثراء لها. من أبرز تلك المداخلات معلومة ذكرها المهندس مصطفى صيداوي، نقلاً عن القناة الروسية: في أبحاث الحمض النووي التي أجراها علماء روس، استنتجوا أنّ الهجرات الأولى للإنسان العاقل كانت من الأورال إلى الشرق الأوسط ثم إلى الصحراء، وليس العكس.
– انتقد العميد تركي الحسن الأستاذ الأحمد لأنه لم يفصّل في أوجه التكامل. وقدّم هو شرحاً يفيد بأنّ الأهداف بين الفكر السوري القومي والفكر القومي العربي هي ذاتها، فالعناصر الأساسية عند الطرفين هي الوحدة والحرية والعدالة الاجتماعية، وثمة اختلاف على المستوى السياسي، مثل شكل الحكم والانتماء الحزبي. أما العنصران المادي والروحي، فموجودان أيضاً في العروبة.
– حينها، أكّد الأستاذ طارق الأحمد على أنّ الطرفين يشكّلان جبهة واحدة متكاملة، وعاد وأكّد على أنّ السوريين القوميين هم سيف العالم العربي وترسه. ثم نوّه إلى الشهيد سعادة حين سُئل: “هل يمكن للعالم كلّه أن يصبح أمة واحدة يوماً؟ فكان جوابه: “من يدري؟”.
– أما النائب أحمد مرعي، فقد أكّد على إمكانية فتح باب النقاش حول تدعيم هذه الندوة بمقاربة الزعيم أنطون سعادة لمفهوم العروبة.
– تساءل الطالب الشاب عبد الله الجدعان عن دور الحزب السوري القومي الاجتماعي في الجبهة الوطنية التقدمية، فقال: هل يجب إعادة النظر في الجبهة الوطنية التقدمية؟ وهل يجب خلق جبهة أخرى منافسة لها من أجل تجديد الحيوية فيها؟
– أجابه الأستاذ طارق الأحمد قائلاً: إنّ دور الحزب السوري القومي الاجتماعي قد أعاد الحيوية فعلاً إلى الجبهة. لكنه أكّد أنه ليس من شأن الجبهة خلق جبهة منافسة لها.
– هنا تدخّلت د. ريم منصور الأطرش، موجِّهة حديثها إلى الشاب: أنت شاب في العشرينيات من عمرك، لكنك تلتقي مع والدي، رحمه الله، في فكرة إقامة جبهة وطنية معارِضة فكرياً وسلاحها الكلمة فقط. ففي رأيه، الحكم له جناحان، النظام والمعارضة، وبهما يحلّق ويرتقي. كما طرح في كتابه (الإصلاح في سوريا) فكرة إنشاء نوادٍ سياسية، ينتسب إليها مفكّرون من كافة التوجّهات الفكرية والأيديولوجية، ويتمّ فيها حوار راقٍ يساهم في تلاقح الأفكار بحرية وديمقراطية. وبذلك تتطوّر الأفكار وأصحابها، وتوظَّف لصالح الخير العام.
– ثم أكّد الصحافي علاء طبرة على أهمية ما طرحه الأستاذ طارق الأحمد في هذه الندوة، رغم أنّ عنوانها جذب إليه بعض المشاكل مع السوريين القوميين. كما أكّد على مقولة الشهيد أنطون سعادة في “محاربة العروبة الوهمية من أجل إنشاء العروبة الواقعية”.
لكنّ الصحافي خلط بين العروبة والدولة الدينية، فاعترضت د. ريم الأطرش على كلامه، مذكِّرةً بكلام الأستاذ ميشيل عفلق في محاضرته “في ذكرى الرسول العربي” التي أكّد فيها على أنّ العروبة هوية والإسلام روح لها، أي ثورة الإسلام الاجتماعية، في سبيل خلق الجيل العربي الجديد؛ وأنّ العروبة كتجربة حياتية هي استعداد دائم في الأمة العربية لكي تهبّ في كل وقت تسيطر فيها المادة على الروح.
حينها قال الأستاذ طارق الأحمد: إنّ الرئيس الأسد وصّف العروبة على أنها هوية وثقافة وانتماء وليست دولة دينية، وأنّ المسألة هي تراكم حضاري واضح. كما أكّد على أنّ التعاون مع جميع التيارات الفكرية، سواء كانت قومية عربية أم يسارية أم شيوعية هو هام وضروري، ورفض قطعاً التعاون مع التيارات العنصرية والدينية وعلى رأسها الإخوان المسلمون.
كما كانت ثمة مداخلات أخرى من بعض الحضور، لم توافق تماماً على هذا الطرح في الندوة، لكنها تمنّت توسيع هذه الأفكار ومتابعة الحوار فيها.
شكّلت الندوة إنعاشاً للأفكار. وختمتْ د. ريم الأطرش بالتأكيد على حاجة السوريين الماسّة للحوار الحقيقي والمعمَّق، واحترام مخرجاته وتنفيذها، فالمؤمنون بالحوار سلاحهم الكلمة فقط.
*عميد الاقتصاد وعضو المكتب السياسي في الحزب السوري القومي الاجتماعي