عن الفلسطينيين”ناكري الجميل”واستئناف تطهير الضمائر”
ناكرو الجميل”دافعوا عن وطنهم وقدموا الآلاف من الشهداء في مسيرة كفاحهم الطويلة، ودافعوا عن الأمة كلها. و”ناكرو الجميل” هم من بنوا في الصحراء وقدموا المعلمين والخبرات على اختلاف أنواعها في الطب والهندسة والتمدين والتخطيط..
نافذ أبو حسنة
خاص بوابة الهدف
بعض هذه السطور لا يمكن أن تكتب بطريقة جيدة، ومع أنّ الهدف هنا ليس الترافع عن الفلسطينيين، وهم ليسوا بحاجة لذلك، ولا “معايرة” من يشتمونهم اليوم، فإن الانزلاق إلى ما هو غير مرغوب يظل واردًا، وعليه فالاعتذار متوجب عن كل زلة، بما فيها تلك المقصودة.
الجد والهزل:
في مشهد تلفزيوني حواري نال شهرة واسعة، ربما في معرض رغبة الكشف عن انحدار التطبيع إلى درك أسفل جديد، وربما لأسباب أخرى، يظهر ممثلان سعوديان من أبطال مسلسل حمل اسم “مخرج 7” وهما يتحدثان عن الفلسطينيين والعرب و”إسرائيل”، فيحددان في الحوار القصير: العدو والصديق، والوفي وناكر الجميل، والمصلحة والفوائد، والأرباح والخسائر، ويستعرضان التاريخ والحاضر والمستقبل الخ.
مع الثقالة المنطقية في كل هذه الموضوعات حين نتخلى عن البديهيات (مثل عروبة فلسطين)، فقد أراد صنَّاع المسلسل تقديمها بلغة درامية لمواطنين عاديين تمامًا، وعلى نحو يوصل المتلقي إلى قناعات نهائية بصدق ما يقولانه وعفويته، وإلى أنّ ما انتهيا إليه، هو ما سيصل إليه المواطن العادي أيضًا حين يفكر في الأمور “ببساطة”، لكن البساطة ليست سمة ذلك المشهد على الإطلاق.
أحد الممثلين السعوديين هو ناصر القصبي (دوخي). تنضح ملامح هذا الممثل بالسخرية، فمنذ نيله جانبًا من الشهرة على المستوى العربي في سلسلة “طاش ما طاش” التي أنتجها تلفزيون الشرق الأوسط السعودي (المعروف بـ mbc)، والمشاهد لا يستطيع أن يفرق بسهولة بين جدّه وهزله. طريقته في النطق، وملامح وجهه تظهره ساخرًا وهو في أعلى درجات الجدّ، وإذا استخدم عينيه، في محاولة يائسة لتقليد ممثل عالمي شهير، أعطى انطباعًا عن رجل أبله. يتعزز هذا الانطباع عنه بارتخاء جفنيه غير المتحكم به، وهو يؤدي كل الأدوار التي تسند إليه بالرتابة ذاتها، وبالأدوات عينها.
وفق تركيب المشهد كان ينبغي أن يظهر القصبي جادًا، وهو يناقش الممثل الآخر (راشد الشمراني، جبر) حول “إسرائيل” وفلسطين. هذا موضوع في غاية الجدية والخطورة، لكن جدّ القصبي كان المقصود به الهزل أصلًا، فوفق الدور المسند إليه يفترض أنّه يقف في الجانب الصحيح، مستنكرًا أن يتاجر من هو قبالته مع “الإسرائيليين”، ومذكرًا بأنّ الفلسطينيين “بشر، فيهم الطيب وفيهم الردي”، وليختتم بالحديث عن أنً “إسرائيل هي التي تزرع الفتن”. في هذا المقطع الأخير كانت ذروة أدائه المعتاد، بعد أن تم تمرير المراد من المشهد ما بين تعمد الجدية والسخرية الشديدة.
الرسائل المسمومة:
عند التوقف أمام متن الحوار الذي يدور بين الممثلين تتبدى على الفور تلك الرغبة المحمومة في جعل موضوع “البزنس مع الإسرائيليين” أمرًا معتادًا يمكن النقاش فيه على أريكة مريحة، وتوفير الذريعة المنطقية له، كون الفلسطينيون من “ناكري جميل المملكة عليهم”، هنا يتبدى العمل مع الصهاينة والتجارة معهم نتيجة منطقية لعدم اعتراف الفلسطينيين بما قُدّم لهم من السعودية، وقيامهم بشتمها. لعب خبيث على الانشداد المرضي للهويات الفرعية، ومقولات الـ “أولًا” الشهيرة. هذا القسم من النص هو الذي يمكن احتسابه في حيز التطبيع، لكن الأجزاء التي يجري تقديمها ذرائع للتطبيع هي الأكثر خطورة والأشد سمّية في الحوار القصير و”العفوي”!
بالرغم مما يريد الحوار إظهاره من نقاش بين عربيين يحملان وجهتي نظر مختلفتين، تكريسًا لتحويل قضية فلسطين والصراع مع العدو الصهيوني إلى وجهة نظر تحتمل كل أشكال النقاش، وهو ما يوفره تركيب المشهد منذ اللحظة الأولى، فإن الحوار في الواقع قد ذهب إلى غاياته الأخرى المطلوبة، حيث تناوب الممثلان على تقويم الفلسطينيين، وتحليل شخصيتهم، وعلى تناولهم بالنقد والتقريع. الأول وهو يتحدث عن أنّ العدو هو ناكر الجميل الفلسطيني، وليس “الإسرائيلي”، والثاني الذي يدافع عنهم وعن الحق والضمير، فيمرر عبارة نكران الجميل مباشرة، ومعها الحديث عن أنّ من الفلسطينيين البشر، بحسب اكتشافه، من باعوا أراضيهم، ومن يبنون الجدار العازل.
المراد من الحوار هنا هو “الشيطنة”، شيطنة الفلسطينيين، ليس لتسويغ التطبيع فحسب، لكن لتشويه فلسطين وقضيتها وشعبها عبر سوق سلسلة من الادعاءات والأكاذيب المعتادة في مثل هذه الحالة، وإن كانت هذه المرة الأولى التي تقدم فيها من خلال وسيلة مؤثرة: الدراما.
تطهير الضمائر:
بعد نكبة فلسطين مباشرة، فوجئ المنكوبون المقتلعون من أرضهم تحت هدير المدافع، وأزيز الرصاص، وفحيح البلطات والسكاكين بمن يقول لهم: لقد بعتم أراضيكم. وانتشرت مثل النار في الهشيم مقولات من قبيل: “باع الفلسطينيون أراضيهم وجاءوا ليأخذوا أراضينا”.
في ذلك الوقت كانت هذه الفرية تخدم في اتجاهين، الأول: تطهير ضمائر من لم يبذلوا الجهد المطلوب في الدفاع عن فلسطين، وهم كثر. والثاني: امتصاص غضب الشارع العربي، ومنع التعاطف مع الفلسطينيين المقتلعين من أرضهم في الآن عينه.
يمكن القول إن من اخترعوا الفرية قد حققوا الهدف منها مرحليًا. لقد صدرت عشرات الأبحاث والدراسات التي تكذّب تلك الادعاءات، لكن التوقف المؤقت عن تردادها لم يكن بفضل تلك الأبحاث والدراسات على أهميتها الكبيرة، بل بسبب تقدم المشروع التحرري العربي وانطلاق الثورة الفلسطينية المسلحة، ونضالات الشعب الفلسطيني متعددة الأشكال في ميادين المواجهة.
ظلت فرية بيع الأرض مثل سكين في الجيب يشهر في وجه الفلسطينيين بين الحين والآخر، لكنها لم تكن السكين الوحيدة، فمع الوقت جرى تطوير وسائط الشيطنة واختراع المفردات المناسبة لكل مرحلة من المراحل التي كانت تتطلب شيطنة الفلسطينيين، وهذا مجال بحث طويل، يمكن أن ينتج عنه توثيق مئات الوقائع، ومئات الحكايات أيضًا. صار للشيطنة مواسم معروفة، يمكن من خلالها معرفة ما يريده القائمون بها في كل مرة.
اليوم يعود تلفزيون سعودي للحديث عن بيع الفلسطينيين لأراضيهم. لا يحتاج المرء إلى إمعان الفكر كي يعرف أنّ المنغمسين في التطبيع، وفي الدعوة لإعطاء فرصة لصفقة القرن، ومن يريدون تسويغًا مسبقًا للصمت عن “مشروع الضم” في الضفة، بل وربما التهيئة للاستثمارات في كيان العدو، لن يجدوا أفضل من ترداد الأكاذيب ذاتها. هذه المرة ليس لتطهير الضمائر، بل لمسح الدم عن السكاكين المنغرسة في قلب فلسطين وشعبها.
مجرد إشارات:
تبقى إشارات سريعة إلى ناكري الجميل. “ناكرو الجميل” لم يدافعوا عن بلدهم ويقدموا عشرات الآلاف من الشهداء في مسيرة كفاحهم الطويلة وحسب، بل دافعوا عن الأمة كلها. و”ناكرو الجميل” هم من بنوا في الصحراء وقدموا المعلمين والخبرات على اختلاف أنواعها في الطب والهندسة والتمدين والتخطيط، وهم، هم بالذات من أرسل بعثة تعليمية على نفقتهم إلى الكويت بتعليمات من المفتي الحاج أمين، وهم من تبرع لبناء المشافي، وهم،.. هذا مما لا يستحب الاستمرار في سرده. فهم أيضًا من ينحنون أمام الشهداء العرب الذين قدموا إلى فلسطين سيرًا على الأقدام للدفاع عن عروبتها، وهذا مما يستحب التذكير به وسرد وقائعه.
ناكرو الجميل كانوا يأخذون أموالًا مقتطعة من رواتب أبنائهم بنسبة 7 في المائة، وفق قرار صادر من جامعة الدول العربية لتمويل منظمة التحرير الفلسطينية، ولا يتلقون صدقات ولا هبات. وقطع البترول، عدا عن كونه موقفًا محقًا ما دام صادقًا، أدى إلى ارتفاع أسعاره، وتدفق المليارات على الخزائن، والتي يعرف الناس كيف وأين صرفت.
“هب أنّ” أموالًا دفعت لفلسطين، وناكري الجميل الذين لم يلهجوا بالشكر والثناء ليل نهار، وكنتم أحق بهذه الأموال أيها الجهبذ، ألستم بحاجة إلى الأموال التي تصرف على تدمير اليمن، وتلك التي صرفت، ولا تزال تصرف على تدمير سوريا و ليبيا ، وتلك المهداة لترامب، والموهوبة لنجوم وخصوصًا نجمات الترفيه وتلك التي تنفق في المباذل الكثيرة أيضًا؟