العبث الصهيوني في موقف مصر العربية من القضية الفلسطينية
العبث الصهيوني في موقف مصر العربية من القضية الفلسطينية
عبد الله الأشعل
رغم فقر الوثائق المصرية بالمعلومات الصحيحة الدقيقة عن قضية فلسطين وإسرائيل، فإن الحكومة المصرية أحسنت بتكليف لجنة من المؤرخين لتجميع الوثائق الرسمية حول القضية الفلسطينية في لجنة التاريخ للمجلس الأعلى للثقافة، برئاسة المؤرخ الكبير الدكتور عادل غنيم.
وقد احتفلت الأوساط العلمية بهذه الوثائق، وهي تستحق الاحتفاء من زاوية واحدة هي أن المصادر الصهيونية تلوث موقف مصر من القضية. فدارس التاريخ بين نارين: بين تاريخ وهمي من البطولة في الوثائق المصرية، وبين تاريخ مزور في الكتابات الصهيونية. ولذلك نحذر من احتفاء البعض بسبب نقص الشفافية في الوثائق المصرية من الاعتماد بشكل بديل على الكتابات الصهيونية. وقد لاحظت ذلك في مجال الإعلام، إذ يعتمد قطاع كبير من المصريين على المصادر الإسرائيلية بسبب عدم منطقية الإعلام المصري.
وقد لاحظت بشكل عملي هذه الكارثة عندما كنت أُعد لندوة نظمتها جامعة كمبردج على وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، وكان مطلوبا أن أحدد موقف مصر من تصريح بلفور الذي ذاع صيته في كتب التاريخ المصرية وتغنى به بعض الدعاه السياسيين؛ فقالوا إن بلفور وعد من لا يستحق واستطاع الجانبان البريطاني والصهيوني أن يسلبا صاحب الحق الشرعي (وهم الفلسطينيون) حقه، على أساس أن التصريح ترجم إلى اللغة العربية على أنه وعد، بينما هو تعهد ضمّنه وزير الخارجية البريطاني اللورد أرثر بلفور رسالة موجهة إلى روتشيلد، رئيس الجالية اليهودية في بريطانيا، على تفصيل أثبتناه في مقالنا حول هذا الموضوع.
وقد وجدت أن مصر كلها عام 1917، أحزابا ومثقفين من جميع الاتجاهات، قد استقبلت هذا التصريح بقلق بالغ، وأن بعض المثقفين كانوا موزعين بين القلق والإشفاق على مأساة اليهود، كما أسموها في ذلك الوقت. وزاد في اللبس أن اليهود المصريين كانوا في الحركة الوطنبة ضد الإنجليز الذين احتلوا مصر. فاليهود المصريون ناهضو الإنجليز بصفتين؛ الصفة الأولى بصفتهم مصريين والصفة الثانية بصفتهم يهودا زعموا أن الإنجليز احتلوا بلادهم فلسطين، ولذلك زعمت إسرائيل أنها حررت فلسطين من المحتلين الإنجليز، وتحتفل بيوم إعلان قيامها باعتباره يوم الاستقلال عن بريطانيا. وجدير بالفلسطينيين أن يعلنوا يوم رحيل بريطانيا عن بلادهم يوم الاستقلال.
وظن المثقفون المصريون، مثل طه حسين وأحمد زيوار وأحمد لطفي السيد، أن اليهود مضطهدين في البلاد التي يقيمون فيها، وأن بريطانيا تحسن صنعا عندما تشرف على هجرتهم إلى فلسطين. وهؤلاء المثقفون عاودتهم عاطفة الإشفاق على اليهود الذين تعرضوا للهولوكوست في إلمانيا.
أما المصادر الصهيونية فقد حرفت الموقف المصري، واعتبرت أن موقف الجالية اليهودية في مصر هو الموقف المصري، وفسرت الاتجاه الإنساني عند أحمد لطفي السيد ونسبت إليه وقائع لم تحدث. وكذلك نسبت إلى شيخ الازهر وإلى زيوار باشا، بل إن هذه المصادر قد نشرت صورة الرئيس محمد نجيب وهو في المعبد اليهودي عام 1952، وقالت إن نجيب كان يحارب إسرائيل بطريقته، وهو تشجيع اليهود المصريين على البقاء في مصر وعدم الهجرة إلى إسرائيل. يضاف إلى ذلك أن هذه المصادر المشبوهة قد تحدثت عن الهجرة الطوعية ليهود مصر إلى إسرائيل، فقالت إنهم من اللاجئين المارين بمصر وليسوا جزءا من يهود مصر. ثم إن هذه المصادر نفسها قد شنت حملة شعواء على الحكومة المصرية التي طردت بعض اليهود بعد قيام إسرائيل والحرب مع العصابات الصهيونية عام 1948، وطالبت بالتعويض عن ممتلكات هؤلاء اليهود.
الخلاصة أن مصر أدركت منذ البداية أن فلسطين للفلسطينيين، وأن اليهود تسللوا إليها بالخديعة والمكر. وكان النقراشي باشا قد أبلغ المعبرين عن موقف مصر في مجلس الأمن بعد صدور قرار التقسيم عام 1947، عندما ألقى باللائمة على الأمم المتحدة وبريطانيا،
وقال إنهم وضعوا الأسس للسرطان الصهيوني في المنطقة. وبالفعل كانت تلك نظرة صائبة، ومن يدرى لعل للصهاينة دخلا في اغتيال النقراشي باشا عام 1949.
والواقع أن موقف مصر من القضية الفلسطينية قبل الاعتراف بإسرائيل كان واضحا تماما، وهو أن فلسطين لأهلها العرب وأن اليهود المهاجرين إليها يجب أن يعودوا إلى أوطانهم وفق رؤية الرئيس جمال عبد الناصر.
أما السادات فقد انتهج نهجا يتراوح بين السذاجة والتبسيط والعقد، وهذه تفسيرات ثلاثة طرحت لتفسير التقارب بين السادات وبين إسرائيل على قاعدة أن واشنطن في ظنه تملك 99 في المائة من أوراق اللعبة. وهذا غير صحيح، وكل ما تملكه واشنطن من أوراق اللعبة مسخّر لصالح إسرائيل والسلام الإسرائيلي. فليس ما يقوله السادات عبقرية أو اكتشاف، وأميل إلى أن السادات بحكم محدودية تعليمه وعقليته المتواضعة سار في هذا الاتجاه واعتنق هذه النظرية، رغم أن البعض في مصر ممن لا يعوَّل على أحكامهم يعتبرون السادات قمة في العبقرية وأنه كان ثعلبا سياسياً، بالإضافة إلى فضائل عسكرية أضفوها عليه ولم يلتفتوا إلى نقاد السادات مثل حسنين هيكل والفريق الشاذلي. فكما أن عبد الناصر كان مسؤولا كما قال المشير الجمسي عن كارثة 1967، فإن السادات كان مسؤولا عن كارثة ما اعتقده أنه تصحيح للكارثة الأولى، ومصر وشعبها يدفعان ثمن هذه الكوارث.
فموقف مصر في عصر عبد الناصر كان قاطعا، ولكنه موقف يليق بالمفكرين وليس بالساسة أصحاب القرار، ولذلك نعتقد أن إسرائيل لم تجد بدا من تحطيم المعبد على عبد الناصر ونظامه ومشروعه، وكانت تلك المحطة الأساسية لانطلاق المشروع الصهيوني في مصر والعالم العربي.
أما السادات ومن خلفه فكانوا في قارب آخر، والنتيجة أن المشروع الصهيوني تخلص من الصخرة المصرية التي كانت تعرقله، بل وفي بعض المراحل استأنس مصر – في بعض التقديرات – التي ربما دون أن تدري سهلت له سيره منذ السادات.
ولا شك أن التشويش الصهيوني على مواقف مصر من القضية لا يزال قائما، بل إن المشروع الصهيوني يستهدف مصر بالأساس.